يقترب مع الورشات التحضيرية له موعد المُؤتمر الوطني الفلسطيني، الذي تنادت إليه نخب مُتنوّعة، أكّدت ضرورة عقده بعد ما حلّ من كارثة رهيبة جراء حرب الإبادة الإسرائيلية في غزّة. وإن كانت الدعوة إلى المُؤتمر قد واكبت الحرب لوضع أسس الرؤية النضالية المتجدّدة، والتمهيد لإعادة بناء منظّمة التحرير الفلسطينية، وأيضاً على خلفية معالجة الوضع الفلسطيني المُتأزّم في أكثر من صعيد، وما تركته آثار الانقسام من تصدّعات استراتيجية في المستوى الوطني، لم تستطع غالبية النُّخَب الفلسطينية، بأطيافها كلّها، التصدّي لها منفردة، ولا إنتاج خطاب وطني جامع لمواجهة التردّي الحاصل في المستويات كلّها، السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، ما جعل حال الشعب الفلسطيني، في كل أماكن وجوده، "تصعب على الكافر"، كما يقول المثلُ الشعبي لتوصيف وضع يصعُب الخروج منه.
وإذا كان ثمّة تنافس بين مبادرات عديدة تدعو إلى عقد مُؤتمَر كهذا، وتحت شعارات متشابهة، فإنّ حال التنافس النُّخبَوي بين هذه المبادرات، وعقلية الزعامة التي طغت على السلوك الوطني العام، آفةً مميتةً، منعت نجاح أيّ مبادرة وضعهتا قيد التنفيذ العملي، إلى أن وصلنا إلى حرب الإبادة. لكنّ ذلك التنافس على الزعامة لم يعد مسموحاً، بل سيتساوى مع حال الانقسام والفساد السياسي والوطني الذي أودى بنا قبل أن نبدأ. وهنا، لا بدّ من أخذ جانب الحذر من مغبّة تكرار هذا التنافس والانقسام المقيت داخل أروقة المُؤتمَر وخارجه، لأنّه لم يعد ترفاً يمكن لنا أن نسمح به لأنفسنا فلسطينيين وفلسطينيات، وإلّا فلن يرحمنا التاريخ، ولن يرحمنا شعبنا، بل سيدير أبناؤه ظهورَهم لنا، ولن تتمكّن النُّخَب المُشارِكة أن تنظر في وجوههم إن واصلت التشبّث بخلافاتها ومنافساتها، فيما لا يزال الناس يعانون حرب الإبادة والفقر والإذلال والتشريد، والتسلّط ممّن يحكمونهم ويمسكون برقابهم، وإن كانوا لا يتساوون في حجم التسبب بالكارثة؛ أكانوا جيش الاحتلال، أم السلطتَين في الضفّة الغربية وغزّة، أو لجنة شعبية أو فصائلية في مخيمات اللجوء، أو فئات معينة تهيمن على الخطاب الوطني في الشتات، بما يُؤجّج حال الاستقطاب من غير أيّ إحساس بالمسؤولية وما سيجرّه هذا التأجيج من انزلاق إلى الهاوية. وهي عوامل متفاوتة من حيث الحدّة والأهداف، وإن كان العامل الرئيس المُتسبّب بها هو الاحتلال الصهيوني.
إعادة اجترار الخطاب الوطني الفلسطيني السابق من غير إعادة النظر فيه في ضوء حرب الإبادة الجارية لا يوصلنا إلى مكان
لذا على المُؤتمرين والنُّخَب الفلسطينية المُختلفة، من الفئات والأعمار كافّة، النساء قبل الرجال، الشباب قبل الكبار، ورجال ونساء المال والأعمال في شتّى الميادين الاقتصادية، في فلسطين وفي خارجها، أن يحذروا من التورّط في سلوكات التنافس على الزعامة، والظهور بأشكال أخرى لا تليق بالعمل على التكافل والوحدة الوطنية مدخلاً رئيساً وبنيوياً في مواجهة حرب الإبادة. إنّنا اليوم إزاء إنتاج خطاب وطني تحرّري جديد يَستمدّ من تجربة حرب الإبادة ونتائجها الكارثية معالم جديدة يتّخذها الصراع مع الكيان الصهيوني وحلفائه الدوليين، أو من تتقاطع مصالحهم معه، وكلّهم يسعون إلى نهش المنطقة العربية عبر بوابة إبادة الشعب الفلسطيني أو التفريط في حقوقه من غير ورع. كنّا لن نصدّق لو لم نرَ بأعيننا ما يحدُث من جرائم في غزّة، وكيف تُدمّر منازل سكانه وبُناه التحتيّة مع حظر شبه شامل للمساعدات الإنسانية التي تضمن أسباب الحياة، بل بلغ مدى حرب الإبادة حدّ تجويع أهلنا في غزّة، وامتهان كرامتهم وجعل حياتهم مستحيلة.
نحتاج اليوم إلى خطاب جديد يصدُر عن المُؤتمر الوطني المزمع عقده؛ خطاب "ما بعد حرب الإبادة" المستمرّة بأفعال تُصنّفها اتفاقية منع الإبادة الجماعية للقانون الإنساني (1948)، الذي صادقت عليه دولة الكيان الصهيوني بعد ثلاث سنوات من انتهاء الحرب العالمية الثانية. وبالتأكيد، يتطلّب هذا الخطاب رسم استراتيجيات صراع جديدة، ليس مع إسرائيل فحسب، بل مع الحركة الصهيونية العالمية، وحلفاء إسرائيل الداعمين حرب الإبادة، وفي مقدمتهم الولايات المتّحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، ودول غربية عديدة. ولكن على هذا الخطاب أن يتعامل، أيضاً، بشكل ما مع القوى الإقليمية التي تتقاطع أجنداتها مع الكيان الصهيوني لتنهش في اللحم الحي للشعب الفلسطيني غير مكترثةٍ بما قد يصيبه من كوارث جرّاء التقاطع مع هذا الكيان. والأكثر أهمّية من هذا كلّه، إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية قضيةً عربيةً مركزيةً في المستويين، الرسمي والشعبي، إذ لا مناص من حاضنة عربية قويّة لتحقيق هدف التحرير، ولشدّ عصب الفلسطينيين والفلسطينيات، بدلاً من نثر بذور الانقسام بين ظهرانيهم، أي الخروج على واقع فرضته اتفاقية سايكس بيكو (1916)، التي كان لها الدور الأساس في نكبة فلسطين عام 1948، بل في زعزعة العمل العربي المشترك تجاه قضايا التنمية والتحرّر ومنع بلورة خطّة للنهوض المُشترك يكون شريانها الرئيس تغليب العمل الديمقراطي في بنية الدولة العربية الحديثة، والتي أعاقها زرع الكيان الصهيوني في فلسطين حدّ الاستحالة. لكنّ الآفات التي عانتها هذه التطلّعات العربية، مُنفردةً ومُجتمعةً، هي نفسها التي تعانيها الساحة الفلسطينية، وفي مقدمتها السلوك التنافسي الضيّق لتبوّؤ الزعامة، كما الخصومات البينية وظواهر الانقسام والمحسوبيات وظواهر الفساد المالي والسياسي والثقافي والفكري واجترار الشعارات الجوفاء، التي لم تُوضع حيّز الممارسة، حتّى في أكثرها صوابية، إلا في حيّز ضيّق لم يدم طويلاً.
ولذلك، يُعوّل على المُؤتمر الوطني الفلسطيني المزمع عقده ليخرج من قلب الخراب، ليضع خطابَ ما بعد حرب الإبادة في قلب الهدف الاستراتيجي لتحرير فلسطين، وليضع خططاً عمليةً في محاكاة الخطاب الشعبي لحركة الاحتجاجات العالمية المُؤيّدة للحقّ الفلسطيني والمُندّدة بحرب الإبادة، والمطالبة بالوقف الفوري لإطلاق النار وتحرير فلسطين. لم يعد مسموحاً أن يقتصر الخطاب الفلسطيني على التوجّهات القُطْرية أو العربية أو الإسلامية، بل نحتاج أن يتخطّى ذلك إلى التوجّه إلى العالم كي يواجه بدوره خطاب "معاداة الإنسانية"، الذي يطغى على الخطاب الإسرائيلي المدعوم من الغرب، الذي تغضّ الطرف عنه بعض القوى المهيمنة في العالم، ولا سيّما الصين وروسيا، وربّما تحت ستار محاربة خطاب معاداة الساميّة، الذي يُروّجه الغرب. نتوقّع أن يخرج خطاب ما بعد حرب الإبادة من المُؤتمر الوطني الفلسطيني إلى العالم مهمّةً رئيسةً لمواجهة خطاب الاتهام بمعاداة السامية الذي تتزعّمه إسرائيل وحلفاؤها الدوليون، وليس إعادة إحياء منظّمة التحرير فقط، وتشكيل منظومة اقتصادية مالية دولية للنهوض بالشعب الفلسطيني من الخراب الذي أحدثته حرب الإبادة في غزةّ، وأيضاً الضفّة الغربية، وعموم التجمّعات الفلسطينية المُهدَّدة في داخل فلسطين وفي خارجها.
يُعوّل على المُؤتمر الوطني الفلسطيني المزمع عقده ليخرج من قلب الخراب، ليضع خطابَ ما بعد حرب الإبادة في قلب الهدف الاستراتيجي لتحرير فلسطين
إعادة اجترار الخطاب الوطني السابق الذي تبنّته منظمّة التحرير (وتحديداً خطاب حركة فتح) أو الذي تبنّته حركتا المقاومة الإسلامية (حماس) والجهاد الإسلامي في فلسطين، من غير إعادة النظر فيه على خلفية حرب الإبادة الجارية، أو دراسة الأسباب التي مهّدت لها هذه الحرب من غير قصد، أو ساهمت، بشكل مباشر أو غير مباشر، في أن تحدُث بالحجم والفجاجة والوقاحة التي حدثت فيها، وفي غفلة عن توقّعاتنا أو فهمنا الجوانب العقلية الإبادية في الفكر الصهيوني... من غير ذلك لا يمكن أن نصل إلى مكان.
يجب ألا يكون خطاب ما بعد حرب الإبادة فلسطينياً فحسب، بل خطاباً عالميّاً إنسانيّاً شاملاً يترفّع عن الانتقام، لكنه لا يتنازل عن محاكمة المجرمين المسؤولين عن هذه الحرب، أكانوا مسؤولين إسرائيليين أم رؤساء دول وحكومات دعمت حرب الإبادة الجماعية، في غزّة على وجه الخصوص، وفي مدى عقود من التطهير العرقي المُكثّف في النكبة الأولى أو في مدى العقود التي تلتها. يجب أن يدفع الثمن كلّ من امتدّت يده إلى الشعب الفلسطيني تنكيلاً وتشريداً وتجويعاً وإفقاراً وقتلاً وطرداً وتمييزاً عنصرياً، في داخل إسرائيل وفي خارجها، وأن توضع آليات قانونية وعملية لذلك. هذا في الحدّ الأدنى للخطاب، لكي يلتقي مع حركة التضامن العالمية مع فلسطين وشعبها، التي تخطّى خطابُها الخطابَ الفلسطيني الرسمي، والعربي أيضاً، ليطالب بتحرير فلسطين، بعيداً عن خديعة حلّ الدولتَين، وتقويضاً للجوهر الصهيوني لدولة إسرائيل. لقد آن الأوان لخطاب ما بعد حرب الإبادة أن يجيب عن أسئلة المصير والثوابت الأصيلة للحقوق الفلسطينية، ولكن باستراتيجيات عملية جديدة ومتنوّعة، ليكون بوصلة هذا العالم للخروج من الخراب الذي ينتظره على يد الطغاة في جهات العالم الأربع، كما الخراب الذي حلّ بغزّة، وربّما يكون أول الغيث الأسود.
يجب أن يُخرجنا خطاب ما بعد حرب الإبادة من حال الصدمة، ويعالج أسئلة وجودنا الوطني والإنساني، ويتخطّى الخطاب السياسي والأخلاقي ليشمل الخطاب الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والدبلوماسي. والأكثر أهمّية أن يبحث في نقاط القوّة التي أُخرِجت من السباق، أي العمق العربي أولاً وثانياً، وإلى الأبد، كي تعود فلسطين ساحةَ الصراع الأولى ضدّ الغزاة كما كانت دائماً، وأيضاً بوابةَ النهوض العربي، حتّى حين يتخلّى العرب عن النهوض، وعن أنفسهم.